(عرضٌ مكثَّفٌ لسيرة الحبيب ﷺ)
=========
【 رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ 】
دعوةٌ جليلة انبعَثَت من قلبٍ رحيم شفيق، في زمان بعيد سحيق، في لحظة فاذَّةٍ ملؤها الإخباتُ والضراعة، فانطلَقَت تلتمسُ موضعَها في الملكوت الأعلى، مدَّخرًا جوابُها في باطن الغيب.. تُطوى القرون وتتسارع الأحداثُ، ويتغير وجه الزمان، تتلاشى أنوار النبوات شيئا فشيئا، لم يبقَ منها إلا ومضاتٌ تلتمعُ حينًا وتخفِتُ أحيانا، ظَلماءُ الجاهلية قاتمةٌ تغمر القلوبَ إلا بقيةً ممن لم تزلْ شعلةٌ من الهدى متقدَةً في أرواحهم.. في حُلكة ذلك الليل البهيم، بَرقَت بارقةُ نورٍ يخطَف الأبصارَ سناهُ، ويستلِبُ العقولَ بهاؤه.
~~~
(١)
وُلد الهدى فالكائنات ضياءُ
وفمُ الزمان تبسُّم وثناءُ
وُلدَ الحبيبُ ﷺ، فتوالَتِ البُشريَاتُ وتتابعَت البهجاتُ، وافترَّ ثغرُ الدنيا عن مُشرِقِ البسمات، ثم لم يزل ﷺ ينمو ويكبر، ويستوي في أطواره المتعاقبة على خير الأمور وأكمل الأحوال، كانت تحفُّه البركةُ حتى تغمرَ مَن حولَه، لَدُنْ صبائه وأيامَ ارتضاعه في بني سعد بن بكر، ثم غلامًا يافعا غزير البركة في نفسه وعلى أهله وقومه، كان جدُّه عبد المطلب إذا فقد شيئا بعثَ حفيدَه الميمونَ المبارك فما يرجع إلا وهي في يده، وكان يُستسقى الغمامُ بوجهه الأنوَرِ وهو غلامٌ فتيٌّ.. ثم شابًّا ماضيَ العزم متمرِّسًا بالأمور، يخرج تاجرًا فيربح ضعفَ ما يربح غيرُه، فيختار الله ﷻ له امرأةً هي خير نساء قومه وأشرفُهم نسبا وأكثرُهم مالا وأوفاهم عقلا، هيَّأها الله ﷻ وصنعها على عينه لتكون ذُخرا لحبيبه وصفيه ﷺ في أعقاب الزمان.. ثم رجلًا تامَّ الرجولة، أوفرَ الناس عقلا، وأنقاهم قلبا، وأصدقَهم لهجة، وأعظمهم أمانة، وأحسنهم أخلاقا، وأجمَعَهم لمحاسن الأمور، وأبعدَهم عما يشين الرجال، تراه في دقيق الأمور حاضرَ الفكرة غزير الفطنة كما تراه في جليلها، رشيدَ النفس، متقد البصيرة فيما يحار فيه السادة الكبراء والملأ السُراة.
ولم يزَلْ ﷺ متساميًا عما حوله، مرتَقِيًا في معارج الكمال، حتى آنَسَ من نفسه انفضاضًا عن قومه ونزوعًا إلى الخلوة بربه، كأنما كان بصيرا بما خُبئ له في طيِّ الغيب. إن تلك الدعوة المحفوظةَ في الملكوت الأعلى قد دنا أوانُ جوابُها، وقرُب زمان حلولِ بركاتها.. في لحظةٍ نُورانية، التَقَتْ غاياتُ الشرف العُليا كما لم تلتقِ يوما، شرفُ الزمان، وشرف المكان، وشرف الكلام، وشرفُ حاملِ الكلام، وشرف مستودَع الكلام.. خيرُ الشهور رمضان، في خير البقاع مكة، يتنزل فيه خير الكلام كلامُ الله ﷻ، بوساطة خير الملائكة جبريل عليه السلام، على خير البشر محمد ﷺ، إيذانا بانزياح عتمة الجاهلية وإشراق الأنوار السماوية على صفحة الأرض!
...
كان من حُسن صنيع الله تبارك وتعالى لعبده وحبيبِه ﷺ: أن هيَّأَ له أهلا وأصحابا يتلقَّون عنه بوادرَ أنوار الوحي الشريف، بالتصديق التام والمؤازرة البالغة من أول وهلةٍ، بلا أدنى تردد عن قبول الأمر الجديد، الذي يلوح في أفق الزمان أنه سيحارَب ويعادَى، وتُبذَل الجهود والأنفس والأموال في محاولة قمعه ووأده، وكذا كانت الزمرة الأولى من قلوبٍ نادرة المثال في الوجود، كان سَريَانُ تلك الأنوار فيها سريعًا غامرا، أخفَقَت كلُّ محاولةٍ لإطفاء شعلة من تلك الأنوار، ولِم لا وإنها كانت قلوبًا مكبَّلةً بقيود من الجهل والظلم وكلِّ معنى قبيح في الوجود، ثم لاح لها العتقُ من ذلك الرِق، فهي لا ترتضي بذلك العتق بدلا ولو كان الثمنَ لتلك الحرية حياتُها!
عقباتٌ من كل جنسٍ ونوع تُوضَع للصدِّ عن تلقي النور وقبوله، شدائد تزلزل الصُّمَّ الصلاب، وتذهب بعقول ذوي الألباب، أمورٌ تتضايق وتشتد حتى تبلغ ساعةً عظيمة الحرَج.. ساعة يرتدي فيها النبيُّ المكافحُ المجاهدُ ﷺ مُسوحَ الضراعة والمسكنة، ويبتهل داعيا خاشعا، يشكو إلى الله ﷻ ضعف قوته وقلة حيلته وهوانه على الناس، لتنقلب الأمورُ بعدها خيرَ منقَلَبٍ.. يُسري به ربه تبارك وتعالى إلى بيت المقدس، فيصلي بالأنبياء إماما مقدَّما، ثم يَعرج به إلى السماوات، فيرى من آيات ربه الكبرى، ويسمع كلامه وفرائضَه، فتطيب نفسه، ويعلم منزلته وجَاهَه عند خالقه.
...
جذوةُ نورٍ تلتقطُها قلوبٌ جاءت من ديار بعيدة لحاجة في نفوسها، تشرق تلك القلوبُ بالإيمان والوحي، فيعودون إلى ديارهم بخيرٍ مما جاءوا إليه، حاملين مشاعل نورٍ وهدى تستضيء به أرضهم، فيتعاقب أهلوها فوجًا فوجا، ينشدون قبَسا من تلك الأنوار.. ثلاثة أعوامٍ كانت كافية لتهيئة تلك البلدة المباركة فتغدو أرضا خصبة لازدراع ثمرات الإيمان والحق، حتى قامت واستوت على سوقها أصلا ثابتا وفرعًا في السماء، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.
~~~
(٢)
"إن الله قد أذن لي في الهجرة"
سنين تتابعت بما فيها من حوادث ووقائع، ونالَ أهلَ الملة الحنيفية في خلالها ما نالَهم، أذًى في دينهم ونفوسهم وأموالهم، ونكالا بهم وتعذيبا لهم أن قالوا ربنا الله، هنا تهيَّأت أرضٌ أخرى لتكون مهاجَرًا لهم ومتنفَّسًا لدينهم، يعبدون ربهم فيها غير خائفين من بطشٍ ولا مضرة، انفسَحت طيبةُ للقوم الذين ضاقت بهم أوطانهم ومرابعُ قومهم، انفسحت أرضًا مباركةً وقلوبًا طيبةً وصدورا رحبة وأكفًّا حانيةً ونفوسا سخيةً، اندفَقَت إليها ركائب النور مهاجرة إلى الله سبحانه، ويومًا أذِن الله لحبيبِه ﷺ في الهجرة، فاصطحب أوفى خليلٍ له، وأعْوَنَه له بنفسه وماله وأهله وكلِّ شيء يقدر عليه، ارتحل الخليلان ممتطيَيْن ظهر الأرض أياما ولياليَ، بين نفوسٍ تلتمس مقدمهما يوما فيَومًا، وبين عيونٍ تطلبُ لهما أثرا لتأخذهما به، استمرارا في محاولات قمع الدين الحنيف.
طُوِيت الأرض، وبلغ الرفيقان الوجهةَ، فانشرحت الصدورُ وابتهجت النفوسُ، وترنَّمَت الأفواهُ بأعذب أنغام الحب وصادق المشاعر، أشرَعَت البيوتُ أبوابَها تبتغي الشرفَ الرفيع باحتضان سيد الناس وإمامهم، فاختار الله له منزلا يستقر فيه، واصطفى له بقعة من الأرض يرفع فيها بيتًا لله جل في علاه، لتنجليَ عن قلوب أصحابه غاشيةُ الكرب التي طالما أثقلَتْ أفئدتَهم، حين كان الواحدُ منهم لا يقدر أن يجهر بصلاته في قلب دارٍه، حذرا أن يتكالب عليه أعداءُ الملة، الذين يرعبهم صوتُ الحق المبين، وتعشو أبصارَهم إذا سطعَتْ أنوارُه الباهرة.
...
كانت الهجرةُ من أكبر الأحداث التي تغيَّر بها وجهُ العالم وتحوَّل بها مسارُ الأحداث في ذلك العهد، واستمر أثر ذلك التحول بعده إلى ما شاء الله.. استوت الكفة بالفريقين معنويا وإن كان الفريق الظالم الجائر أكثر عدة وعتادا فيما يرى الناظر، أصبح للمؤمنين دولة ومنعة وعقدوا عقودا ومَدُّوا أواصرَ، فروضٌ فُرِضَت وأمورٌ نُسخَت ومجملاتٌ فُصِّلَت ومحاوراتٌ أقيمت.. ثم شُرع الجهاد وظهر أول دورٍ للسيوف في الإسلام، بعدما كانت مغمَدة سنين عددا.
هنا حمي الوطيس بين الفريقين زمانا، والحرب سجالٌ والأيام دولٌ، مرةً نصر وأخرى هزيمة، حتى كان يوم الخندق، الذي كان من أضيق الأيام على المسلمين، لتنفرج لهم بعده فرجةٌ غاية في الاتساع، حين خرجوا بعدها بعام واحد يريدون العمرة واستعادة ذكريات البلدة الأم، فحال بينها وبينهم حجابٌ من الكفر والعدوان، وثارت حمية الجاهلية تأبى على المؤمنين أن يمتعوا أرواحهم ويُنعشوا نفوسهم بزيارة البيت المعظم، فكانت هدنةُ الحديبية، التي لم يستَطِبِ المسلمون شروطها، فدخَلهم من الغم ما كاد يذهب بنفوسهم، لكن نبيَّ الله ﷺ، الذي كان نافذ البصيرة راجح العقل في أيامِ جاهلية الناس وغيِّهم، لم يكن التوفيقُ ليُجانفَه وقد رسَخت أقدامه في الشريعة، واشتد عوده في النبوَّة، وتغلغل الوحي في جوانحه، فلو كان فعلُه الذي فَعَلَه يومئذ وحْيًا فهو ذلك، ولو كان رأيا رآه فلا جرْم، كان أسدَّ الناس رأيا، وأحدَّهم بصرًا، وأثقبَهم نظرا خلالَ سِجْفِ الغيب، فلم يخيِّبْه ربه ﷻ، وكانت تلك الهدنة فتحًا مبينا ونفحةً عميمةَ البركات.
...
أصبحت مكة على هامش الحروب بين الإسلام والكفر، واتجهتْ ركائبُ الدين إلى أنحاء الجزيرة، تحمل الكتبَ بيدٍ والسيوف بأخرى، كتبٌ نبوية إلى ملوك الأرض إشارةً إلى علو أمره وارتفاع شأن دعوته، وخيولٌ امتد ضبحُها حتى بلغ ديار الروم في معركة مؤتة، ومن قبلِها كانت غزوة خيبر، التي لم يكن فيما بين الحديبية وفتح مكة غزوةٌ أهم منها ولا أعظم أثرا، على المؤمنين انتصارا على اليهود ورخاء اقتصاديا غير مسبوق، وعلى اليهود انحسارا لأمرهم وزوالا لشوكتهم في دار الإسلام الأولى، هذا مع ما كان أهل مكة يصنعونه بنقض شروطِ صلح الحديبية على أنفسهم، وهدم بنيانها على رؤوسهم، حتى قلعوا آخر أحجارها حين غدروا بحلفاء النبي ﷺ غدرا صريحا، كان ثمرتَه الفتحُ الأعظم، فتحُ مكة المكرمة!
ذلك الفتح الذي اتسعَت بركاته لتعم الجزيرة كلها، ويتتابع الناس أرسالا يدخلون في دين الله أفواجا، ويعْظُمَ جيش المسلمين حتى يبلغ اثني عشر ألف مقاتل في حنين، ثم ثلاثين ألفا في تبوك، بعدما كانوا في الحديبية ألفا وبضع مئة نفر فحسبُ، ثم يتأهبَ المسلمون لغزو الروم في تبوك وقد جَمع الروم لهم جمعًا كبيرا.. فلما بلغ المسلمون حيث أرادوا، لم يجدوا عينا للروم ولا أثرا، فقاموا ببعض الأمور، ثم انطلقوا إلى طيْبة الطيِّبة، التي احتضنتهم كأوفى ما تكون أمٌّ رؤومٌ لأبنائها البررة.
~~~
(٣)
"فألقت عصاها واستقر بها النوى"
خلع النبيُّ ﷺ لأمةَ الحرب بعد رجوعه من تبوك فلم يلبسها بعد ذلك أبدا، وانطلق المسلمون في موسم الحج يرأسهم الصديق الأكبر أبو بكر رضي الله عنه، وفي القوم مشركون لم يسلموا، فنزلت سورة براءة، وانطلق بها علي بن أبي طالب رضي الله عنه يبلغها في الحجيج وينادي ألا يحج بعد العام مشركٌ، ولا يطوف بالبيت عريان.. ثم كانت الحجة الكبرى، التي يمتزجُ فيها غاية الفرح بالتمام، بغاية الحزن على اقتراب الوداع.. حجةٌ ليس فيها إلا مسلم، عشرات الآلاف كلهم يأتمون برسول الله ﷺ ويلتمسون هديه، وهو الذي كان -قبل ثلاث عشرة سنة فحسبُ -يدور على الناس في منازلهم في منى، يدعوهم إلى شهادة التوحيد وكلمة الحق فلا يجد مَن يستجيب له..
【 الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا 】!
وحين فرغَ ﷺ من الحجة العظمى، فارق مكة المكرمةَ فراقا باتًّا، وعاد إلى طيبة الطيبة عوْدًا آبِدًا، عاد ليستمْكِنَ المرضُ جسَدَه الشريفَ، وتلوح للنفوس أمارات الوداع، عاد سيدنا ونبينا وحبيبنا محمد ﷺ وقد استتَمَّ فصولَ حياته المباركة العامرة، وأتم اللهُ عليه نعمتَه وفتحَه ونصره، وقرت عينُه برؤية أفواج الناس تدخل في الدين الحنيف، فتاقت نفسه لما عند الله تبارك وتعالى، واستشعر الموتَ في مرضه ذاك، فودَّعَ كلَّ مَن كان أهلا لوداعه، ودَّع أصحاب البقيع وشهداء أحد، ودَّع أصحابه وأهل بيته، ودَّع الدنيا بما فيها وما عليها، واختار موضعا بين سحْرِ أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ونَحرها، ليَبعَث من ذلك الموضع آخرَ أنفاسه الطاهرة، منطلقا إلى الرفيق الأعلى!
...
وأظلم من المدينة كل شيء بوفاته، بعدما كان أضاء منها كل شيء حين مقدمِه، ولكن حسبنا أنه ترك لنا أنوارا لا تطفئها رياحُ الدهور مهما اشتد صريرها، وأن حبَّه في نفوسنا لا تجتاحه جوائح الزمان مهما طال أمدها، وأننا من أمته ومن أتباع ملته، وأننا نسأل الله أن يجعلنا في زمرته يوم نلقاه، وأن يسقينا من يده شربة هنيئة، وأن نلقاه في جنة عدن إذ فاتنا حظنا من لقائه في هذه الدار الفانية.
=========
صلى الله وسلم، وبارك وأنعم، على عبده ورسوله، وصفيه وخليله، النبي الأكرم والرسول الأعظم، وعلى آل بيته وصحابته وأتباعه في كل دهرٍ وحين.